
أسامة داود يكتب : من «إنجازات جينيس» إلى رحلة تسويق المستودعات المعطلة ( 3 )
 (1).jpg )
في الحلقتين السابقتين، فى موقع طاقة نيوز فتحنا ملف المستودعات العملاقة التي ابتلعت مليارًا ونصف المليار دولار من أموال الدولة تحت شعار «إنجازات استراتيجية» سرعان ما تلاشى بريقها، بعدما تحولت هذه المشروعات إلى مستودعات مهجورة، لا تحمل اليوم سوى لافتات الصيانة الدورية وتقارير إعلامية تتحدث عن «أكبر سعات تخزينية في المنطقة». آنذاك، تساءلنا: من المسؤول عن هذا الهدر؟ وكيف تحولت مشروعات رُوّج لها باعتبارها حصنًا لأمن الطاقة إلى أصول معطلة بلا عائد؟
واليوم، نجد وزير البترول والثروة المعدنية المهندس كريم بدوي يحمل ملف هذه المستودعات في حقيبته متوجهًا إلى أبوظبي، في رحلة تحمل عنوانًا واحدًا: البحث عن منقذ خارجي لمشروع فشل في تحقيق أهدافه منذ البداية.
اجتماعات أبوظبي: محاولة إحياء مشروع ميت؟
خلال الزيارة، عقد الوزير اجتماعًا موسعًا مع مجموعة موانئ أبوظبي بمقرها في الإمارات، أكد فيه تطلع مصر إلى تعظيم الاستفادة من الأصول المتطورة لقطاع البترول، وخاصة مستودعات الاحتياطيات الاستراتيجية من الزيت الخام.
وأضاف أن الوزارة تسعى لتطبيق المحورين الثاني والسادس من استراتيجيتها المتكاملة، أي تعظيم القيمة المضافة للأصول وتعزيز التعاون الإقليمي، مع إشارة واضحة إلى الرغبة في دمج الخبرات التشغيلية والتقنيات الرقمية الإماراتية بالبنية التحتية المصرية.
الاجتماع انتهى بتوقيع مذكرة تفاهم ثلاثية بين الوزارة، ومجموعة موانئ أبوظبي، وشركة «تي سي أم» لإدارة المشاريع، لبحث تعاون إقليمي مشترك يعيد تشغيل هذه المستودعات، ويدمجها في منظومة تجارة البترول العالمية.
الطرف الإماراتي وصف الاتفاقية بأنها تعكس الأهمية الاستراتيجية للسوق المصري، فيما اعتبرها الوزير خطوة نحو تعزيز مرونة سلاسل الإمداد ودعم أمن الطاقة الإقليمي.
من موسوعة جينيس إلى مائدة التسويق
رحلة الوزير الحالى كريم بدوى إلى أبوظبي تعكس تحولاً جذريًا في خطاب الوزارة... فقبل سنوات، وفى عهد الوزير السابق طارق الملا قدّمت هذه المستودعات للإعلام باعتبارها إنجازًا تاريخيًا دخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وبُنيت تقارير دعائية كاملة حول سعاتها التخزينية.
ثم تحولت تدريجيًا إلى أصول صامتة لم تدخل الخدمة، فيما تكبّد قطاع البترول تكلفة تمويل بلغت 1.5 مليار دولار.
والآن، نرى الوزارة تطرق أبواب الشركاء الخارجيين لتسويق هذه المستودعات وتشغيلها بعد سنوات من الجمود.
الانتقال من خطاب الفخر الوطني إلى التسويق الخارجي لإنقاذ أصول معطلة يعكس بوضوح حجم الإخفاق في التخطيط والتنفيذ.
أسئلة تفرض نفسها : لماذا لم يتم التخطيط للشراكات التشغيلية منذ البداية؟
لو كان تشغيل المستودعات يتطلب خبرات لوجستية وإدارة متقدمة، فلماذا لم يتم تضمين هذه الشراكات في مرحلة التخطيط لتجنب تجميد استثمار بهذا الحجم؟
هل الاستراتيجية تغيرت أم أن الواقع فرض نفسه؟
الوزارة تتحدث عن «تعظيم القيمة المضافة للأصول» وكأنها خطة جديدة، بينما الواقع يشير إلى محاولة تدارك خسائر استثمار لم يُحسن استغلاله.
من يتحمل مسؤولية هدر المليار ونصف دولار؟
حتى الآن، لا إجابات رسمية حول المسؤولين عن القرارات التي وضعت هذه الأصول في خانة «العبء المالي» بدل أن تكون ركيزة للأمن الطاقي.
هل ستخرج المستودعات إلى الخدمة أخيرًا؟
ما تم فى الإمارات هو مذكرة تفاهم لاتتجاوز خطوة أولى، لكنها لا تضمن شيئًا ملموسًا. التجارب السابقة تشير إلى أن كثيرًا من مذكرات التفاهم تنتهي إلى الأدراج، بينما يظل المال العام مدفونًا في الرمال.
إنقاذ السمعة قبل الأصول
الزيارة ليست مجرد تفاوض حول أصول متوقفة، بل محاولة لإنقاذ سمعة الوزارة أمام الرأي العام. فالملف الذي تصدر عناوين الصحافة كمشروع قومي رائد، عاد ليطارد الوزارة بأرقام الهدر والديون.
في الحلقات السابقة، كشفنا كيف تحولت هذه المستودعات إلى مشروعات «بلا عائد»، وأثبتنا بالوثائق أن تكلفتها بلغت 19مليار جنيه فى وقت كان سعر صرف الدولار 15جنيه وحسب المصادر ان التكلفة بلغت 1.5 مليار دولار دون استخدام.
اليوم، بات واضحًا أن أي تحرك لإنقاذ هذه الأصول يحمل بُعدًا سياسيًا لا يقل عن بعده الاقتصادي: إظهار أن الوزارة تتحرك لمعالجة ملف شائك، ولو بعد سنوات من الصمت.
سوف يظل الإنجاز الوحيد لسفر الوزير كريم بدوى إلى أبوظبي هو لإنجاز «مذكرة تفاهم»، لا أكثر. أما التشغيل الفعلي لهذه المستودعات، فيتطلب:
اتفاقات تشغيل واضحة ومُلزمة مع الشركاء.
إعادة هيكلة فنية وتشغيلية لضمان جدواها الاقتصادية.
شفافية كاملة حول مصير التمويل السابق والمسؤولين عن التعثر.
حتى ذلك الحين، تبقى المستودعات رمزًا لفشل التخطيط الاستراتيجي، ومحورًا لتساؤلات الرأي العام:
هل تتحول «إنجازات جينيس» يومًا إلى أصول عاملة، أم أننا أمام مشروع سيظل عبئًا على الدولة مهما تعددت محاولات التجميل؟
رحلة الوزير إلى أبوظبي قد تكون بداية لإحياء مشروع معطل، لكنها أيضًا إقرار ضمني بأن الوزارة لا تملك وحدها مفاتيح تشغيل هذه المستودعات. وبينما تواصل الوزارة الدفاع عن مشروعها بـ مذكرات تفاهم ، سيظل السؤال قائمًا: من يعوض الخسائر التي تكبدتها الدولة طوال هذه السنوات؟
فى انتظار الإجابة
الملف مفتوح، والرأي العام لن يغلقه إلا بخطة واضحة تحول «المليار ونصف المليار دولار» من عبء إلى قيمة مضافة حقيقية.